الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»
.باب فِي الْمُنْفِقِ وَالْمُمْسِكِ: قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ يَوْم يُصْبِح الْعِبَاد فيه إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فَيَقُول أَحَدهمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلْفًا، وَيَقُول الْآخَر: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا» قَالَ الْعُلَمَاء: هَذَا فِي الْإِنْفَاق فِي الطَّاعَات وَمَكَارِم الْأَخْلَاق وَعَلَى الْعِيَال وَالضِّيفَان وَالصَّدَقَات وَنَحْو ذَلِكَ، بِحَيْثُ لَا يُذَمُّ وَلَا يُسَمَّى سَرَفًا، وَالْإِمْسَاك الْمَذْمُوم هُوَ الْإِمْسَاك عَنْ هَذَا. .باب التَّرْغِيبِ فِي الصَّدَقَةِ قَبْلَ أَنْ لاَ يُوجَدَ مَنْ يَقْبَلُهَا: وَفِي هَذَا الْحَدِيث وَالْأَحَادِيث بَعْده- مِمَّا وَرَدَ فِي كَثْرَة الْمَال فِي آخِر الزَّمَان، وَأَنَّ الْإِنْسَان لَا يَجِد مَنْ يَقْبَل صَدَقَتَهُ- الْحَثّ عَلَى الْمُبَادَرَة بِالصَّدَقَةِ، وَاغْتِنَام إِمْكَانهَا قَبْل تَعَذُّرهَا. وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوَّل الْحَدِيث: «تَصَدَّقُوا فَيُوشِك الرَّجُل...» إِلَى آخِره، وَسَبَب عَدَم قَبُولهمْ الصَّدَقَة فِي آخِر الزَّمَان لِكَثْرَةِ الْأَمْوَال وَظُهُور كُنُوز الْأَرْض، وَوَضْع الْبَرَكَات فيها، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيح بَعْد هَلَاك يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَقِلَّة آمَالهمْ، وَقُرْب السَّاعَة وَعَدَم اِدِّخَارهمْ الْمَال، وَكَثْرَة الصَّدَقَات. وَاَللَّه أَعْلَم. 1680- قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَطُوف الرَّجُل بِصَدَقَتِهِ مِنْ الذَّهَب» إِنَّمَا هَذَا يَتَضَمَّن التَّنْبِيه عَلَى مَا سِوَاهُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الذَّهَب لَا يَقْبَلهُ أَحَدٌ، فَكَيْف الظَّنُّ بِغَيْرِهِ؟ وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَطُوف» إِشَارَة إِلَى أَنَّهُ يَتَرَدَّد بِهَا بَيْن النَّاس، فَلَا يَجِد مَنْ يَقْبَلُهَا فَتَحْصُل الْمُبَالَغَةُ وَالتَّنْبِيه عَلَى عَدَم قَبُول الصَّدَقَة بِثَلَاثَةِ أَشْيَاء: كَوْنه يَعْرِضهَا، وَيَطُوف بِهَا، وَهِيَ ذَهَبٌ. قَوْله: «وَيَرَى الرَّجُل الْوَاحِد» ثُمَّ قَالَ: وَفِي رِوَايَة اِبْن بَرَّاد: «وَتَرَى» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ، الْأَوَّل: «يُرَى» بِضَمِّ الْيَاء الْمُثَنَّاة تَحْت، وَالثَّانِي بِفَتْحِ الْمُثَنَّاة فَوْق. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيُرَى الرَّجُل الْوَاحِد تَتْبَعهُ أَرْبَعُونَ اِمْرَأَة يَلُذْنَ بِهِ مِنْ قِلَّة الرِّجَال وَكَثْرَة النِّسَاء» مَعْنَى: «يَلُذْنَ بِهِ» أَيْ يَنْتَمِينَ إِلَيْهِ، لِيَقُومَ بِحَوَائِجِهِنَّ وَيَذُبَّ عَنْهُنَّ كَقَبِيلَةٍ بَقِيَ مِنْ رِجَالهَا وَاحِد فَقَطْ وَبَقِيَتْ نِسَاؤُهَا، فَيَلُذْنَ بِذَلِكَ الرَّجُل لِيَذُبَّ عَنْهُنَّ وَيَقُوم بِحَوَائِجِهِنَّ، وَلَا يَطْمَع فيهنَّ أَحَدٌ بِسَبَبِهِ. وَأَمَّا سَبَب قِلَّة الرِّجَال وَكَثْرَة النِّسَاء، فَهُوَ الْحُرُوب وَالْقِتَال الَّذِي يَقَع فِي آخِر الزَّمَان وَتَرَاكُمِ الْمَلَاحِم، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيَكْثُر الْهَرْجُ»، أَيْ الْقَتْلُ. 1682- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَتَّى يُهِمَّ رَبَّ الْمَالِ مَنْ يَقْبَلُ صَدَقَتَهُ» ضَبَطُوهُ بِوَجْهَيْنِ أَجْوَدُهُمَا وَأَشْهَرُهُمَا (يُهِمّ) بِضَمِّ الْيَاء وَكَسْر الْهَاء، وَيَكُون رَبّ الْمَال مَنْصُوبًا مَفْعُولًا، وَالْفَاعِل (مَنْ) وَتَقْدِيره: يُحْزِنُهُ وَيَهْتَمُّ لَهُ، وَالثَّانِي: (يَهُمّ) بِفَتْحِ الْيَاء، وَضَمّ الْهَاء، وَيَكُون رَبّ الْمَال مَرْفُوعًا فَاعِلًا، وَتَقْدِيره يَهُمّ رَبُّ الْمَال مَنْ يَقْبَل صَدَقَته أَيْ بِقَصْدِهِ، قَالَ أَهْل اللُّغَة: يُقَال: أَهَمَّهُ إِذَا أَحْزَنَهُ، وَهَمَّهُ إِذَا أَذَابَهُ، وَمِنْهُ قَوْلهمْ: هَمَّك مَا أَهَمَّك، أَيْ أَذَابَك الشَّيْء الَّذِي أَحْزَنَك، فَأَذْهَبَ شَحْمَك، وَعَلَى الْوَجْه الثَّانِي هُوَ مَنْ هَمَّ بِهِ إِذَا قَصَدَهُ. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا أَرَبَ لِي فيه» بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَالرَّاء، أَيْ لَا حَاجَة. 1683- قَوْله: (مُحَمَّد بْن يَزِيد الرِّفَاعِيّ) مَنْسُوب إِلَى جَدّ لَهُ وَهُوَ مُحَمَّد بْن يَزِيد بْن مُحَمَّد بْن كَثِير بْن رِفَاعَة بْن سَمَاعَةَ أَبُو هِشَام الرِّفَاعِيّ قَاضِي بَغْدَاد. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَقِيء الْأَرْض أَفْلَاذ كَبِدِهَا أَمْثَال الْأُسْطُوَان مِنْ الذَّهَب وَالْفِضَّة» قَالَ اِبْن السِّكِّيت: الْفَلْذ: الْقِطْعَة مِنْ كَبِدِ الْبَعِيرِ، وَقَالَ غَيْره: هِيَ الْقِطْعَة مِنْ اللَّحْم، وَمَعْنَى الْحَدِيث التَّشْبِيه، أَيْ تُخْرِج مَا فِي جَوْفهَا مِنْ الْقِطَع الْمَدْفُونَة فيها. وَالْأُسْطُوَان- بِضَمِّ الْهَمْزَة وَالطَّاء وَهُوَ جَمْع أُسْطُوَانَة- وَهِيَ السَّارِيَة وَالْعَمُود، وَشَبَّهَهُ بِالْأُسْطُوَانِ لِعِظَمِهِ وَكَثْرَتِهِ. .باب قَبُولِ الصَّدَقَةِ مِنَ الْكَسْبِ الطَّيِّبِ وَتَرْبِيَتِهَا: قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِلَّا أَخَذَهَا الرَّحْمَن بِيَمِينِهِ وَإِنْ كَانَتْ تَمْرَة فَتَرْبُو فِي كَفّ الرَّحْمَن حَتَّى تَكُون أَعْظَم مِنْ الْجَبَل» قَالَ الْمَازِرِيّ: قَدْ ذَكَرْنَا اِسْتِحَالَة الْجَارِحَة عَلَى اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى، وَأَنَّ هَذَا الْحَدِيث وَشِبْهه إِنَّمَا عَبَّرَ بِهِ عَلَى مَا اِعْتَادُوا فِي خِطَابِهِمْ لِيَفْهَمُوا، فَكَنَّى هُنَا عَنْ قَبُول الصَّدَقَة بِأَخْذِهَا فِي الْكَفِّ، وَعَنْ تَضْعِيف أَجْرهَا بِالتَّرْبِيَةِ، فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض: لَمَّا كَانَ الشَّيْء الَّذِي يُرْتَضَى وَيُعَزُّ يُتَلَقَّى بِالْيَمِينِ وَيُؤْخَذ بِهَا اُسْتُعْمِلَ فِي مِثْل هَذَا، وَاسْتُعِيرَ لِلْقَبُولِ وَالرِّضَا كَمَا قَالَ الشَّاعِر: قَالَ: وَقِيلَ عَبَّرَ بِالْيَمِينِ هُنَا عَنْ جِهَة الْقَبُول وَالرِّضَا إِذْ الشِّمَال بِضِدِّهِ فِي هَذَا. قَالَ: وَقِيلَ الْمُرَاد بِكَفِّ الرَّحْمَن هُنَا وَيَمِينه كَفّ الَّذِي تُدْفَع إِلَيْهِ الصَّدَقَة، وَإِضَافَتهَا إِلَى اللَّه تَعَالَى إِضَافَة مِلْك وَاخْتِصَاصٍ لِوَضْعِ هَذِهِ الصَّدَقَة فيها لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ: وَقَدْ قِيلَ فِي تَرْبِيَتهَا وَتَعْظِيمهَا حَتَّى تَكُون أَعْظَم مِنْ الْجَبَل، أَنَّ الْمُرَاد بِذَلِكَ تَعْظِيم أَجْرهَا وَتَضْعِيف ثَوَابهَا. قَالَ: وَيَصِحّ أَنْ يَكُون عَلَى ظَاهِره وَأَنْ تَعْظُم ذَاتُهَا وَيُبَارِك اللَّه تَعَالَى فيها وَيَزِيدهَا مِنْ فَضْلِهِ حَتَّى تَثْقُل فِي الْمِيزَان، وَهَذَا الْحَدِيث نَحْو قَوْل اللَّه تَعَالَى: {يَمْحَق اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَات}. وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَمَا يُرَبِّي أَحَدكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيله» قَالَ أَهْل اللُّغَة: (الْفَلُوّ) الْمُهْر سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فُلِّي عَنْ أُمّه، أَيْ: فَصْل وَعَزْل. وَالْفَصِيل: وَلَد النَّاقَة إِذَا فَصْل مِنْ إِرْضَاع أُمّه، فَعِيل بِمَعْنَى مَفْعُول، كَجَرِيحٍ، وَقَتِيل: بِمَعْنَى مَجْرُوح وَمَقْتُول. وَفِي (الْفَلُوّ) لُغَتَانِ فَصَيْحَتَانِ أَفْصَحُهُمَا وَأَشْهَرهمَا: فَتْح الْفَاء وَضَمّ اللَّام وَتَشْدِيد الْوَاو، وَالثَّانِيَة: كَسْر الْفَاء وَإِسْكَان اللَّام وَتَخْفِيف اللَّام. 1685- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلُوَّهُ أَوْ قَلُوصه» هِيَ بِفَتْحِ الْقَاف وَضَمِّ اللَّامِ، وَهِيَ النَّاقَةُ الْفَتِيَّةُ وَلَا يُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ. 1686- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّه طَيِّب لَا يَقْبَل إِلَّا طَيِّبًا» قَالَ الْقَاضِي: الطَّيِّب فِي صِفَة اللَّه تَعَالَى بِمَعْنَى الْمُنَزَّه عَنْ النَّقَائِص، وَهُوَ بِمَعْنَى الْقُدُّوس، وَأَصْل الطِّيب الزَّكَاة وَالطَّهَارَة وَالسَّلَامَة مِنْ الْخُبْث. وَهَذَا الْحَدِيث أَحَد الْأَحَادِيث الَّتِي هِيَ قَوَاعِد الْإِسْلَام وَمَبَانِي الْأَحْكَام، وَقَدْ جَمَعْت مِنْهَا أَرْبَعِينَ حَدِيثًا فِي جُزْء، وَفيه: الْحَثّ عَلَى الْإِنْفَاق مِنْ الْحَلَال، وَالنَّهْي عَنْ الْإِنْفَاق مِنْ غَيْره. وَفيه: أَنَّ الْمَشْرُوب وَالْمَأْكُول وَالْمَلْبُوس وَنَحْو ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُون حَلَالًا خَالِصًا لَا شُبْهَة فيه، وَأَنَّ مَنْ أَرَادَ الدُّعَاء كَانَ أَوْلَى بِالِاعْتِنَاءِ بِذَلِكَ مِنْ غَيْره. قَوْله: «ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُل يُطِيل السَّفَر أَشْعَث أَغْبَر يَمُدّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاء يَا رَبّ يَا رَبّ» إِلَى آخِره. مَعْنَاهُ- وَاَللَّه أَعْلَم-: أَنَّهُ يُطِيل السَّفَر فِي وُجُوه الطَّاعَات كَحَجٍّ وَزِيَارَة مُسْتَحَبَّة وَصِلَة رَحِم وَغَيْر ذَلِكَ. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَغُذِيَ بِالْحِرَامِ» هُوَ بِضَمِّ الْغَيْن وَتَخْفِيف الذَّال الْمَكْسُورَة. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَأَنَّى يُسْتَجَاب لِذَلِكَ» أَيْ مِنْ أَيْنَ يُسْتَجَاب لِمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ؟ وَكَيْفَ يُسْتَجَابُ لَهُ؟ .باب الْحَثِّ عَلَى الصَّدَقَةِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ أَوْ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ وَأَنَّهَا حِجَابٌ مِنَ النَّارِ: 1688- قَوْله: «لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَان» هُوَ بِفَتْحِ التَّاء وَضَمِّهَا، وَهُوَ الْمُعَبِّر عَنْ لِسَانٍ بِلِسَانٍ. قَوْله: «وَلَوْ بِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ» فيه: أَنَّ الْكَلِمَة الطَّيِّبَة سَبَب لِلنَّجَاةِ مِنْ النَّار، وَهِيَ الْكَلِمَة الَّتِي فيها تَطْيِيبُ قَلْبِ إِنْسَانٍ إِذَا كَانَتْ مُبَاحَةً أَوْ طَاعَةً. 1689- قَوْله: (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة وَأَبُو كُرَيْب قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَة عَنْ الْأَعْمَش عَنْ عَمْرو بْن مُرَّة عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ عَدِيّ بْن حَاتِم) هَذَا الْإِسْنَاد كُلّه كُوفِيُّونَ، وَفيه ثَلَاثَة تَابِعِيُّونَ بَعْضهمْ عَنْ بَعْض الْأَعْمَش وَعَمْرو وَخَيْثَمَة. قَوْله: «فَأَعْرَضَ وَأَشَاحَ» هُوَ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَة وَالْحَاء الْمُهْمَلَة، وَمَعْنَاهُ: قَالَ الْخَلِيل وَغَيْره: مَعْنَاهُ نَحَّاهُ وَعَدَلَ بِهِ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: الْمُشِيح: الْحَذِر وَالْجَادّ فِي الْأَمْر، وَقِيلَ: الْمُقْبِل، وَقِيلَ: الْهَارِب، وَقِيلَ: الْمُقْبِل إِلَيْك الْمَانِع لِمَا وَرَاء ظَهْرِهِ. فَأَشَاحَ هُنَا يَحْتَمِل هَذَا الْمَعْنَى أَيْ حَذِر النَّار كَأَنَّهُ يَنْظُر إِلَيْهَا، أَوْ جَدَّ فِي الْإِيضَاح بِإِيقَانِهَا، أَوْ أَقْبَلَ إِلَيْك خِطَابًا أَوْ أَعْرَضَ كَالْهَارِبِ. 1691- قَوْله: (مُجْتَابِي النِّمَار أَوْ الْعَبَاء) النِّمَار بِكَسْرِ النُّون جَمْع نَمِرَة بِفَتْحِهَا، وَهِيَ ثِيَاب صُوف فيها تَنْمِير، و(الْعَبَاء) بِالْمَدِّ وَبِفَتْحِ الْعَيْن جَمْع عَبَاءَة وَعَبَايَة لُغَتَانِ. وَقَوْله: مُجْتَابِي النِّمَار أَيْ خَرَقُوهَا وَقَوَّرُوا وَسَطَهَا. قَوْله: «فَتَمَعَّرَ وَجْه رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» هُوَ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَة أَيْ تَغَيَّرَ. قَوْله: «فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ» فيه: اِسْتِحْبَاب جَمْع النَّاس لِلْأُمُورِ الْمُهِمَّة وَوَعَظَهُمْ وَحَثُّهُمْ عَلَى مَصَالِحِهِمْ وَتَحْذِيرهمْ مِنْ الْقَبَائِح. قَوْله: «فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ» سَبَب قِرَاءَة هَذِهِ الْآيَة أَنَّهَا أَبْلَغُ فِي الْحَثّ عَلَى الصَّدَقَة عَلَيْهِمْ، وَلِمَا فيها مِنْ تَأَكُّد الْحَقّ لِكَوْنِهِمْ إِخْوَةً. قَوْله: «رَأَيْت كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ» هُوَ بِفَتْحِ الْكَاف وَضَمِّهَا، قَالَ الْقَاضِي: ضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ بِالْفَتْحِ وَبَعْضُهُمْ بِالضَّمِّ. قَالَ اِبْن سِرَاج: هُوَ بِالضَّمِّ اِسْم لِمَا كَوَّمَهُ، وَبِالْفَتْحِ الْمَرَّة الْوَاحِدَة. قَالَ: وَالْكَوْمَة- بِالضَّمِّ- الصُّبْرَة، وَالْكَوْم الْعَظِيم مِنْ كُلّ شَيْء، وَالْكَوْم الْمَكَان الْمُرْتَفِع كَالرَّابِيَةِ. قَالَ الْقَاضِي فَالْفَتْح هُنَا أَوْلَى، لِأَنَّ مَقْصُودَهُ الْكَثْرَةُ وَالتَّشْبِيهُ بِالرَّابِيَةِ. قَوْله: «حَتَّى رَأَيْت وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَهَلَّل كَأَنَّهُ مُذْهَبَة»، فَقَوْله: «يَتَهَلَّل» أَيْ يَسْتَنِير فَرَحًا وَسُرُورًا. وَقَوْله: «مَذْهَبَة» ضَبَطُوهُ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا-، وَهُوَ الْمَشْهُور وَبِهِ جَزَمَ الْقَاضِي وَالْجُمْهُور-: «مُذْهَبَة» بِذَالٍ مُعْجَمَةٍ وَفَتْح الْهَاء وَبَعْدهَا بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ، وَالثَّانِي- وَلَمْ يَذْكُرْ الْحُمَيْدِيّ فِي الْجَمْع بَيْن الصَّحِيحَيْنِ غَيْره-: «مُدْهُنَة» بِدَالٍ مُهْمَلَةٍ وَضَمّ الْهَاء وَبَعْدهَا نُون، وَشَرَحَهُ الْحُمَيْدِيّ فِي كِتَابه غَرِيب الْجَمْع بَيْن الصَّحِيحَيْنِ فَقَالَ: هُوَ وَغَيْره مِمَّنْ فَسَّرَ هَذِهِ الرِّوَايَة إِنْ صَحَّتْ: الْمُدْهُن: الْإِنَاء الَّذِي يُدْهَن فيه، وَهُوَ أَيْضًا اِسْم لِلنُّقْرَةِ فِي الْجَبَل الَّتِي يُسْتَجْمَع فيها مَاء الْمَطَر؛ فَشَبَّهَ صَفَاء وَجْهه الْكَرِيم بِصَفَاءِ هَذَا الْمَاء، وَبِصَفَاءِ الدُّهْن وَالْمُدْهُن. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض فِي الْمَشَارِق وَغَيْره مِنْ الْأَئِمَّة: هَذَا تَصْحِيف، وَهُوَ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة وَالْبَاء الْمُوَحَّدَة، وَهُوَ الْمَعْرُوف فِي الرِّوَايَات، وَعَلَى هَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي وَجْهَيْنِ فِي تَفْسِيره أَحَدهمَا: مَعْنَاهُ: فِضَّة مُذْهَبَة، فَهُوَ أَبْلَغ فِي حُسْن الْوَجْه وَإِشْرَاقه، وَالثَّانِي: شَبَّهَهُ فِي حُسْنِهِ وَنُورِهِ بِالْمُذْهَبَةِ مِنْ الْجُلُود، وَجَمْعهَا مَذَاهِب، وَهِيَ شَيْء كَانَتْ الْعَرَب تَصْنَعهُ مِنْ جُلُود، وَتَجْعَل فيها خُطُوطًا مُذْهَبَة يَرَى بَعْضهَا أَثَر الْبَعْض، وَأَمَّا سَبَب سُرُوره صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفَرَحًا بِمُبَادَرَةِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى طَاعَة اللَّه تَعَالَى، وَبَذْل أَمْوَالهمْ لِلَّهِ وَامْتِثَال أَمْر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِدَفْعِ حَاجَة هَؤُلَاءِ الْمُحْتَاجِينَ وَشَفَقَةِ الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَتَعَاوُنِهِمْ عَلَى الْبِرّ وَالتَّقْوَى، وَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ إِذَا رَأَى شَيْئًا مِنْ هَذَا الْقَبِيل أَنْ يَفْرَح وَيُظْهِرَ سُرُورَهُ، وَيَكُون فَرَحُهُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَام سُنَّة حَسَنَة فَلَهُ أَجْرهَا» إِلَى آخِره، فيه: الْحَثّ عَلَى الِابْتِدَاء بِالْخَيْرَاتِ وَسَنّ السُّنَن الْحَسَنَات، وَالتَّحْذِير مِنْ اِخْتِرَاع الْأَبَاطِيل وَالْمُسْتَقْبَحَات، وَسَبَب هَذَا الْكَلَام فِي هَذَا الْحَدِيث أَنَّهُ قَالَ فِي أَوَّله: «فَجَاءَ رَجُل بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا، فَتَتَابَعَ النَّاس» وَكَانَ الْفَضْل الْعَظِيم لِلْبَادِي بِهَذَا الْخَيْر، وَالْفَاتِح لِبَابِ هَذَا الْإِحْسَان. وَفِي هَذَا الْحَدِيث تَخْصِيص قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلّ مُحْدَثَة بِدْعَة وَكُلّ بِدْعَة ضَلَالَة»، وَأَنَّ الْمُرَاد بِهِ الْمُحْدَثَات الْبَاطِلَة وَالْبِدَع الْمَذْمُومَة، وَقَدْ سَبَقَ بَيَان هَذَا فِي كِتَاب صَلَاة الْجُمُعَة، وَذَكَرْنَا هُنَاكَ أَنَّ الْبِدَع خَمْسَة أَقْسَام: وَاجِبَة وَمَنْدُوبَة وَمُحَرَّمَة وَمَكْرُوهَة وَمُبَاحَة. قَوْله: (عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن هِلَال الْعَبْسِيّ) هُوَ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَة. .باب الْحَمْلِ بِأُجْرَةٍ يُتَصَدَّقُ بِهَا وَالنَّهْيِ الشَّدِيدِ عَنْ تَنْقِيصِ الْمُتَصَدِّقِ بِقَلِيلٍ: .باب فَضْلِ الْمَنِيحَةِ: قَالَ: وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب الْمَعْرُوف، قَالَ: وَرُوِيَ مِنْ رِوَايَة الْحُمَيْدِيّ فِي غَيْر مُسْلِم (بِعَسَاءٍ) بِالسِّينِ الْمُهْمَلَة، وَفَسَّرَهُ الْحُمَيْدِيّ بِالْعُسِّ الْكَبِير، وَهُوَ مِنْ أَهْل اللِّسَان. قَالَ: وَضَبَطْنَا عَنْ أَبِي مَرْوَان بْن سِرَاجٌ بِكَسْرِ الْعَيْن وَفَتْحهَا مَعًا، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ الْجَيَّانِيّ وَأَبُو الْحَسَن اِبْن أَبِي مَرْوَان عَنْهُ إِلَّا بِالْكَسْرِ وَحْدَهُ. هَذَا كَلَام الْقَاضِي، وَوَقَعَ فِي كَثِير مِنْ نُسَخ بِلَادِنَا أَوْ أَكْثَرهَا مِنْ صَحِيح مُسْلِم (بِعَسَاءٍ) بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ مَمْدُودَةٍ وَالْعَيْنُ مَفْتُوحَةٌ. وَقَوْله: (يَمْنَح) بِفَتْحِ النُّون أَيْ يُعْطِيهِمْ نَاقَة يَأْكُلُونَ لَبَنَهَا مُدَّة ثُمَّ يَرُدُّونَهَا إِلَيْهِ. وَقَدْ تَكُون الْمَنِيحَة عَطِيَّة لِلرَّقَبَةِ بِمَنَافِعِهَا مُؤَبَّدَة مِثْل الْهِبَة. 1694- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ مَنَحَ مَنِيحَة غَدَتْ بِصَدَقَةٍ وَرَاحَتْ بِصَدَقَةٍ صَبُوحَهَا وَغَبُوقَهَا» وَقَعَ فِي بَعْض النُّسَخ (مَنِيحَة) وَبَعْضهَا (مِنْحَة) بِحَذْفِ الْيَاء، قَالَ أَهْل اللُّغَة: الْمِنْحَة بِكَسْرِ الْمِيم وَالْمَنِيحَة بِفَتْحِهَا مَعَ زِيَادَة الْيَاء هِيَ الْعَطِيَّة، وَتَكُون فِي الْحَيَوَان وَفِي الثِّمَار وَغَيْرهمَا، وَفِي الصَّحِيح أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنَحَ أُمَّ أَيْمَن عِذَاقًا أَيْ نَخِيلًا. ثُمَّ قَدْ تَكُون الْمَنِيحَة عَطِيَّة لِلرَّقَبَةِ بِمَنَافِعِهَا وَهِيَ الْهِبَة، وَقَدْ تَكُون عَطِيَّة اللَّبَن أَوْ الثَّمَرَة مُدَّة، وَتَكُون الرَّقَبَة بَاقِيَة عَلَى مِلْك صَاحِبهَا وَيَرُدّهَا إِلَيْهِ إِذَا اِنْقَضَى اللَّبَن أَوْ الثَّمَر الْمَأْذُون فيه. وَقَوْله: «صَبُوحهَا وَغَبُوقهَا» الصَّبُوح- بِفَتْحِ الصَّاد- الشُّرْب أَوَّلَ النَّهَار، وَالْغَبُوق- بِفَتْحِ الْغَيْن- أَوَّلَ اللَّيْل، وَالصَّبُوح وَالْغَبُوق مَنْصُوبَانِ عَلَى الظَّرْف، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض: هُمَا مَجْرُورَانِ عَلَى الْبَدَل مِنْ قَوْله: «صَدَقَة» قَالَ: وَيَصِحّ نَصْبُهُمَا عَلَى الظَّرْف. وَقَوْله: عَنْ أَبِي هُرَيْرَة يَبْلُغ بِهِ: «أَلَا رَجُلٌ يَمْنَح» مَعْنَاهُ: يَبْلُغ بِهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَأَنَّهُ قَالَ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا رَجُل يَمْنَح؟» وَلَا فَرْق بَيْن هَاتَيْنِ الصِّيغَتَيْنِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاء. وَاَللَّه أَعْلَم. .باب مَثَلِ الْمُنْفِقِ وَالْبَخِيلِ: قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيث عَمْرو النَّاقِد: «مَثَل الْمُنْفِق وَالْمُتَصَدِّق كَمَثَلِ رَجُل عَلَيْهِ جُبَّتَانِ أَوْ جُنَّتَانِ مِنْ لَدُنْ ثَدْيِهِمَا إِلَى تَرَاقِيهمَا» ثُمَّ قَالَ: «فَإِذَا أَرَادَ الْمُنْفِق أَنْ يَتَصَدَّقَ سَبَغَتْ وَإِذَا أَرَادَ الْبَخِيل أَنْ يُنْفِقَ قَلَصَتْ» هَكَذَا وَقَعَ هَذَا الْحَدِيث فِي جَمِيع النُّسَخ مِنْ رِوَايَة عَمْرو: «مَثَل الْمُنْفِق وَالْمُتَصَدِّق» قَالَ الْقَاضِي وَغَيْره: هَذَا وَهْمٌ، وَصَوَابه مِثْل مَا وَقَعَ فِي بَاقِي الرِّوَايَات مَثَل الْبَخِيل وَالْمُتَصَدِّق، وَتَفْسِيرهمَا آخِرَ الْحَدِيث يُبَيِّن هَذَا، وَقَدْ يَحْتَمِل أَنَّ صِحَّةَ رِوَايَة عَمْرو هَكَذَا أَنْ تَكُون عَلَى وَجْههَا، وَفيها مَحْذُوف تَقْدِيره: مَثَل الْمُنْفِق وَالْمُتَصَدِّق وَقَسِيمهمَا وَهُوَ الْبَخِيل، وَحَذَفَ الْبَخِيل لِدَلَالَةِ الْمُنْفِق وَالْمُتَصَدِّق عَلَيْهِ كَقَوْلِ اللَّه تَعَالَى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ} أَيْ وَالْبَرْد، وَحَذَفَ ذِكْر الْبَرْد لِدَلَالَةِ الْكَلَام عَلَيْهِ. وَأَمَّا قَوْله: «وَالْمُتَصَدِّق» فَوَقَعَ فِي بَعْض الْأُصُول: «الْمُتَصَدِّق» بِالتَّاءِ، وَفِي بَعْضهَا: «الْمُصَدِّق» بِحَذْفِهَا وَتَشْدِيد الصَّاد، وَهُمَا صَحِيحَانِ. وَأَمَّا قَوْله: «كَمَثَلِ رَجُل» فَهَكَذَا وَقَعَ فِي الْأُصُول كُلّهَا: «كَمَثَلِ رَجُل» بِالْإِفْرَادِ، وَالظَّاهِر أَنَّهُ تَغْيِير مِنْ بَعْض الرُّوَاة، وَصَوَابه: «كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ». وَأَمَّا قَوْله: (جُبَّتَانِ أَوْ جُنَّتَان)، فَالْأَوَّل بِالْبَاءِ وَالثَّانِي بِالنُّونِ، وَوَقَعَ فِي بَعْض الْأُصُول عَكْسه. وَأَمَّا قَوْله: «مِنْ لَدُنْ ثَدْيهمَا» فَكَذَا هُوَ فِي كَثِير مِنْ النُّسَخ الْمُعْتَمَدَة أَوْ أَكْثَرهَا: «ثَدْيهمَا» بِضَمِّ الثَّاء وَبِيَاءٍ وَاحِدَةٍ مُشَدَّدَة عَلَى الْجَمْع، وَفِي بَعْضهمَا: «ثَدْيَيْهِمَا» بِالتَّثْنِيَةِ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَقَعَ فِي هَذَا الْحَدِيث أَوْهَام كَثِيرَة مِنْ الرُّوَاة وَتَصْحِيف وَتَحْرِيف وَتَقْدِيم وَتَأْخِير، وَيُعْرَفُ صَوَابُهُ مِنْ الْأَحَادِيث الَّتِي بَعْده، فَمِنْهُ: مَثَل الْمُنْفِق وَالْمُتَصَدِّق، وَصَوَابه: الْمُتَصَدِّق وَالْبَخِيل، وَمِنْهُ: كَمَثَلِ رَجُل، وَصَوَابه: رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُنَّتَان، وَمِنْهُ قَوْله: جُنَّتَان أَوْ جُبَّتَانِ بِالشَّكِّ، وَصَوَابه: «جُنَّتَان» بِالنُّونِ بِلَا شَكّ، كَمَا فِي الْحَدِيث الْآخَر بِالنُّونِ بِلَا شَكّ. وَالْجُنَّة: الدِّرْع، وَيَدُلّ عَلَيْهِ فِي الْحَدِيث نَفْسه قَوْله: «فَأَخَذَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَوْضِعَهَا» وَفِي الْحَدِيث الْآخَر: «جُنَّتَان مِنْ حَدِيد»، وَمِنْهُ قَوْله سَبَغَتْ عَلَيْهِ أَو: (مَرَّتْ) كَذَا هُوَ فِي النُّسَخ (مَرَّتْ) بِالرَّاءِ، قِيلَ: إِنَّ صَوَابه (مُدَّتْ) بِالدَّالِ بِمَعْنَى سَبَغَتْ، وَكَمَا قَالَ فِي الْحَدِيث الْآخَر: «اِنْبَسَطَتْ»، لَكِنَّهُ قَدْ يَصِحّ مَرَّتْ عَلَى نَحْو هَذَا الْمَعْنَى. وَالسَّابِغ: الْكَامِل، وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيّ: «مَادَتْ» بِدَالٍ مُخَفَّفَةٍ مِنْ (مَادَ) إِذَا مَالَ، وَرَوَاهُ بَعْضهمْ: «مَارَتْ» وَمَعْنَاهُ: سَالَتْ عَلَيْهِ وَامْتَدَّتْ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيّ: مَعْنَاهُ: تَرَدَّدَتْ وَذَهَبَتْ وَجَاءَتْ يَعْنِي لِكَمَالِهَا، وَمِنْهُ قَوْله: «وَإِذَا أَرَادَ الْبَخِيل أَنْ يُنْفِق قَلَصَتْ عَلَيْهِ وَأَخَذَتْ كُلّ حَلْقَة مَوْضِعهَا حَتَّى تُجِنَّ بَنَانَهُ، وَيَعْفُوَ أَثَرُهُ، قَالَ: فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: يُوَسِّعهَا فَلَا تَتَّسِع». وَفِي هَذَا الْكَلَام اِخْتِلَال كَثِير، لِأَنَّ قَوْله: «تُجِنّ بَنَانه وَيَعْفُو أَثَره» إِنَّمَا جَاءَ فِي الْمُتَصَدِّق لَا فِي الْبَخِيل، وَهُوَ عَلَى ضِدّ مَا هُوَ وَصْف الْبَخِيل فِي قَوْله: «قَلَصَتْ كُلّ حَلْقَة مَوْضِعهَا» وَقَوْله: «يُوَسِّعهَا فَلَا تَتَّسِع» وَهَذَا مِنْ وَصْف الْبَخِيل، فَأَدْخَلَهُ فِي وَصْف الْمُتَصَدِّق فَاخْتَلَّ الْكَلَام وَتَنَاقَضَ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْأَحَادِيث عَلَى الصَّوَاب، وَمِنْهُ رِوَايَة بَعْضهمْ: «تَحُزُّ ثِيَابَهُ» بِالْحَاءِ وَالزَّاي وَهُوَ وَهْمٌ، وَالصَّوَاب رِوَايَة الْجُمْهُور: «تُجِنّ» بِالْجِيمِ وَالنُّون أَيْ تَسْتُر، وَمِنْهُ رِوَايَة بَعْضهمْ: «ثِيَابه» بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَة وَهُوَ وَهْمٌ، وَالصَّوَاب: «بَنَانَهُ» بِالنُّونِ، وَهُوَ رِوَايَة الْجُمْهُور كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيث الْآخَر: «أَنَامِله» وَمَعْنَى تَقَلَّصَتْ: اِنْقَبَضَتْ، وَمَعْنَى: «يَعْفُو أَثَره» أَيْ يَمَّحِي أَثَرُ مَشْيِهِ بِسُبُوغِهَا وَكَمَالهَا، وَهُوَ تَمْثِيل لِنَمَاءِ الْمَال بِالصَّدَقَةِ وَالْإِنْفَاق، وَالْبُخْل بِضِدِّ ذَلِكَ، وَقِيلَ: هُوَ تَمْثِيل لِكَثْرَةِ الْجُود وَالْبُخْل، وَأَنَّ الْمُعْطِي إِذَا أَعْطَى اِنْبَسَطَتْ يَدَاهُ بِالْعَطَاءِ وَتَعَوَّدَ ذَلِكَ، إِذَا أَمْسَكَ صَارَ ذَلِكَ عَادَة لَهُ، وَقِيلَ: مَعْنَى يَمْحُو أَثَره أَيْ يَذْهَب بِخَطَايَاهُ وَيَمْحُوهَا، وَقِيلَ: فِي الْبَخِيل: «قَلَصَتْ وَلَزِمَتْ كُلّ حَلْقَة مَكَانهَا» أَيْ يُحْمَى عَلَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة فَيُكْوَى بِهَا، وَالصَّوَاب الْأَوَّل، وَالْحَدِيث جَاءَ عَلَى التَّمْثِيل لَا عَلَى الْخَبَر عَنْ كَائِن، وَقِيلَ: ضُرِبَ الْمَثَلُ بِهِمَا؛ لِأَنَّ الْمُنْفِق يَسْتُرهُ اللَّه تَعَالَى بِنَفَقَتِهِ، وَيَسْتُر عَوْرَاتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة كَسَتْرِ هَذِهِ الْجُنَّة لَابِسَهَا، وَالْبَخِيل كَمَنْ لَبِسَ جُبَّة إِلَى ثَدْيَيْهِ فَيَبْقَى مَكْشُوفًا بَادِيَ الْعَوْرَةِ مُفْتَضِحًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. هَذَا آخِر كَلَام الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى. 1696- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرِّوَايَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ: «كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ وَمَثَل رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُنَّتَانِ» هُمَا بِالنُّونِ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ بِلَا شَكّ وَلَا خَوْف. قَوْله: «فَأَنَا رَأَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول بِإِصْبَعِهِ فِي جَيْبه، فَلَوْ رَأَيْته يُوَسِّعهَا فَلَا تَوَسَّعُ» فَقَوْله: «رَأَيْته» بِفَتْحِ التَّاء قَوْله: «تَوَسَّعُ» بِفَتْحِ التَّاء وَأَصْله تَتَوَسَّع، وَفِي هَذَا دَلِيل عَلَى لِبَاس الْقَمِيص، وَكَذَا تَرْجَمَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيّ: بَاب جَيْب الْقَمِيص مِنْ عِنْد الصَّدْر. لِأَنَّهُ الْمَفْهُوم مِنْ لِبَاس النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْقِصَّة مَعَ أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ جَاءَتْ بِهِ. وَاَللَّه أَعْلَم. .(بَاب ثُبُوت أَجْر الْمُتَصَدِّق وَإِنْ وَقَعَتْ الصَّدَقَة فِي يَد غَيْر أَهْلهَا): .باب أَجْرِ الْخَازِنِ الأَمِينِ وَالْمَرْأَةِ إِذَا تَصَدَّقَتْ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ بِإِذْنِهِ الصَّرِيحِ أَوِ الْعُرْفِيِّ: مَعْنَى هَذِهِ الْأَحَادِيث أَنَّ الْمُشَارِك فِي الطَّاعَة مُشَارِكٌ فِي الْأَجْر، وَمَعْنَى الْمُشَارَكَة أَنَّ لَهُ أَجْرًا كَمَا لِصَاحِبِهِ أَجْر، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنْ يُزَاحِمَهُ فِي أَجْره، وَالْمُرَاد الْمُشَارَكَة فِي أَصْل الثَّوَاب، فَيَكُون لِهَذَا ثَوَاب وَلِهَذَا ثَوَاب، وَإِنْ كَانَ أَحَدهمَا أَكْثَر، وَلَا يَلْزَم أَنْ يَكُون مِقْدَار ثَوَابهمَا سَوَاء، بَلْ قَدْ يَكُون ثَوَاب هَذَا أَكْثَر وَقَدْ يَكُون عَكْسه، فَإِذَا أَعْطَى الْمَالِك لِخَازِنِهِ أَوْ اِمْرَأَته أَوْ غَيْرهمَا مِائَة دِرْهَم أَوْ نَحْوهَا لِيُوصِلهَا إِلَى مُسْتَحِقّ الصَّدَقَة عَلَى بَاب دَاره أَوْ نَحْوه فَأَجْر الْمَالِك أَكْثَر، وَإِنْ أَعْطَاهُ رُمَّانَة أَوْ رَغِيفًا وَنَحْوهمَا مِمَّا لَيْسَ لَهُ كَثِير قِيمَة لِيَذْهَب بِهِ إِلَى مُحْتَاج فِي مَسَافَة بَعِيدَة بِحَيْثُ يُقَابِل مَشْيَ الذَّاهِب إِلَيْهِ بِأُجْرَةٍ تَزِيد عَلَى الرُّمَّانَة وَالرَّغِيف فَأَجْر الْوَكِيل أَكْثَر، وَقَدْ يَكُون عَمَله قَدْر الرَّغِيف مَثَلًا فَيَكُون مِقْدَار الْأَجْر سَوَاء. 1699- وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْخَازِن الْمُسْلِم الْأَمِين» إِلَى آخِره. هَذِهِ الْأَوْصَاف شُرُوط لِحُصُولِ هَذَا الثَّوَاب، فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْتَنَى بِهَا وَيُحَافَظَ عَلَيْهَا. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَحَد الْمُتَصَدِّقَيْنِ» هُوَ بِفَتْحِ الْقَاف عَلَى التَّثْنِيَة، وَمَعْنَاهُ لَهُ أَجْر مُتَصَدِّقٍ وَتَفْصِيله كَمَا سَبَقَ. 1700- وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَنْفَقَتْ الْمَرْأَة مِنْ طَعَام بَيْتِهَا» أَيْ مِنْ طَعَام زَوْجهَا الَّذِي فِي بَيْتهَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى. 1701- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَنْفَقَتْ الْمَرْأَة مِنْ بَيْت زَوْجهَا غَيْر مُفْسِدَة كَانَ لَهَا أَجْرهَا، وَلَهُ مِثْله بِمَا اِكْتَسَبَتْ، وَلَهَا بِمَا أَنْفَقَتْ وَلِلْخَازِنِ مِثْل ذَلِكَ مِنْ غَيْر أَنْ يَنْتَقِص مِنْ أُجُورهمْ شَيْئًا» هَكَذَا وَقَعَ فِي جَمِيع النُّسَخ: «شَيْئًا» بِالنَّصْبِ، فَيُقَدَّر لَهُ نَاصِب فَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون تَقْدِيره مِنْ غَيْر أَنْ يَنْقُص اللَّه مِنْ أُجُورهمْ شَيْئًا، وَيَحْتَمِل أَنْ يُقَدَّر مِنْ غَيْر أَنْ يَنْقُص الزَّوْج مِنْ أَجْر الْمَرْأَة وَالْخَازِن شَيْئًا، وَجَمَعَ ضَمِيرهمَا مَجَازًا عَلَى قَوْل الْأَكْثَرِينَ: إِنَّ أَقَلّ الْجَمْع ثَلَاثَة، أَوْ حَقِيقَة عَلَى قَوْل مَنْ قَالَ: أَقَلّ الْجَمْع اِثْنَانِ. .باب مَا أَنْفَقَ الْعَبْدُ مِنْ مَالِ مَوْلاَهُ: وَأَشَارَ الْقَاضِي إِلَى أَنَّهُ يَحْتَمِل أَيْضًا أَنْ يَكُون سَوَاء، لِأَنَّ الْأَجْر فَضْل مِنْ اللَّه تَعَالَى يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاء وَلَا هُوَ يُدْرَكُ بِقِيَاسٍ وَلَا هُوَ بِحَسَبِ الْأَعْمَال، بَلْ ذَلِكَ فَضْل اللَّه يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاء وَالْمُخْتَار الْأَوَّل. قَوْله: (مَوْلَى آبِي اللَّحْم) هُوَ بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ وَكَسْرِ الْبَاءِ، قِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَأْكُل اللَّحْم، وَقِيلَ: لَا يَأْكُل مَا ذُبِحَ لِلْأَصْنَامِ، وَاسْم (آبِي اللَّحْم) عَبْد اللَّه، وَقِيلَ: خَلَف. وَقِيلَ: الْحُوَيْرِث الْغِفَارِيُّ. وَهُوَ صَحَابِيٌّ اُسْتُشْهِدَ يَوْم حُنَيْنٍ، رَوَى عُمَيْر مَوْلَاهُ. قَوْله: «كُنْت مَمْلُوكًا فَسَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَأَتَصَدَّقُ مِنْ مَال مَوَالِيَّ بِشَيْءٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، الْأَجْر بَيْنَكُمَا نِصْفَانِ» هَذَا مَحْمُول عَلَى مَا سَبَقَ أَنَّهُ اِسْتَأْذَنَ فِي الصَّدَقَة بِقَدْرٍ يَعْلَمُ رِضَا سَيِّدِهِ بِهِ. 1703- وَقَوْله: «أَمَرَنِي مَوْلَايَ أَنْ أُقَدِّدَ لَحْمًا، فَجَاءَنِي مِسْكِينٌ فَأَطْعَمْته، فَعَلِمَ ذَلِكَ مَوْلَايَ فَضَرَبَنِي، فَأَتَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ، فَدَعَاهُ فَقَالَ: لِمَ ضَرَبْته؟ فَقَالَ: يُعْطِي طَعَامِي بِغَيْرِ أَنْ آمُرَهُ، فَقَالَ: الْأَجْرُ بَيْنَكُمَا» هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ عُمَيْرًا تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ يَظُنّ أَنَّ مَوْلَاهُ يَرْضَى بِهِ وَلَمْ يَرْضَ بِهِ مَوْلَاهُ، فَلِعُمَيْرٍ أَجْرٌ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ شَيْئًا يَعْتَقِدُهُ طَاعَةً بِنِيَّةِ الطَّاعَة، وَلِمَوْلَاهُ أَجْر؛ لِأَنَّ مَاله تَلِفَ عَلَيْهِ، وَمَعْنَى: «الْأَجْر بَيْنَكُمَا» أَيْ لِكُلٍّ مِنْكُمَا أَجْر، وَلَيْسَ الْمُرَاد أَنَّ أَجْر نَفْس الْمَال يَتَقَاسَمَانِهِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَان هَذَا قَرِيبًا، فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْته مِنْ تَأْوِيله هُوَ الْمُعْتَمَد، وَقَدْ وَقَعَ فِي كَلَام بَعْضهمْ مَا لَا يُرْتَضَى مِنْ تَفْسِيره. وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْأَجْر بَيْنكُمَا» لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْأَجْر الَّذِي لِأَحَدِهِمَا يَزْدَحِمَانِ فيه، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ هَذِهِ النَّفَقَة وَالصَّدَقَة الَّتِي أَخْرَجَهَا الْخَازِن أَوْ الْمَرْأَة أَوْ الْمَمْلُوك وَنَحْوهمْ بِإِذْنِ الْمَالِك، يَتَرَتَّب عَلَى جُمْلَتهَا ثَوَابٌ عَلَى قَدْر الْمَال وَالْعَمَل، فَيَكُون ذَلِكَ مَقْسُومًا بَيْنهمَا، لِهَذَا نَصِيب بِمَالِهِ، وَلِهَذَا نَصِيب بِعَمَلِهِ، فَلَا يُزَاحِم صَاحِب الْمَال الْعَامِل فِي نَصِيب عَمَله، وَلَا يُزَاحِم الْعَامِل صَاحِب الْمَال فِي نَصِيب مَاله. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لابد لِلْعَامِلِ- وَهُوَ الْخَازِن- وَلِلزَّوْجَةِ وَالْمَمْلُوك مِنْ إِذْن الْمَالِك فِي ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِذْنٌ أَصْلًا فَلَا أَجْر لِأَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة، بَلْ عَلَيْهِمْ وِزْر بِتَصَرُّفِهِمْ فِي مَال غَيْرهمْ بِغَيْرِ إِذْنه. وَالْإِذْن ضَرْبَانِ: أَحَدهمَا: الْإِذْن الصَّرِيح فِي النَّفَقَة وَالصَّدَقَة، وَالثَّانِي: الْإِذْن الْمَفْهُوم مِنْ اِطِّرَاد الْعُرْف وَالْعَادَة كَإِعْطَاءِ السَّائِل كِسْرَة وَنَحْوهَا مِمَّا جَرَتْ الْعَادَة بِهِ وَاطَّرَدَ الْعُرْف فيه، وَعُلِمَ بِالْعُرْفِ رِضَاء الزَّوْج وَالْمَالِك بِهِ، فَإِذْنه فِي ذَلِكَ حَاصِل وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّم، وَهَذَا إِذَا عَلِمَ رِضَاهُ لِاطِّرَادِ الْعُرْف وَعَلِمَ أَنَّ نَفْسه كَنُفُوسِ غَالِب النَّاس فِي السَّمَاحَة بِذَلِكَ وَالرِّضَا بِهِ، فَإِنْ اِضْطَرَبَ الْعُرْف وَشَكَّ فِي رِضَاهُ أَوْ كَانَ شَخْصًا يَشُحّ بِذَلِكَ وَعَلِمَ مِنْ حَاله ذَلِكَ أَوْ شَكَّ فيه لَمْ يَجُزْ لِلْمَرْأَةِ وَغَيْرهَا التَّصَدُّق مِنْ مَاله إِلَّا بِصَرِيحِ إِذْنه. 1704- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَصُمْ الْمَرْأَة وَبَعْلهَا شَاهِد إِلَّا بِإِذْنِهِ» هَذَا مَحْمُول عَلَى صَوْم التَّطَوُّع وَالْمَنْدُوب الَّذِي لَيْسَ لَهُ زَمَن مُعَيَّن، وَهَذَا النَّهْي لِلتَّحْرِيمِ صَرَّحَ بِهِ أَصْحَابنَا، وَسَبَبه أَنَّ الزَّوْج لَهُ حَقّ الِاسْتِمْتَاع بِهَا فِي كُلّ الْأَيَّام، وَحَقّه فيه وَاجِب عَلَى الْفَوْر فَلَا يَفُوتهُ بِتَطَوُّعٍ وَلَا بِوَاجِبٍ عَلَى التَّرَاخِي، فَإِنْ قِيلَ: فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوز لَهَا الصَّوْم بِغَيْرِ إِذْنه، فَإِنْ أَرَادَ الِاسْتِمْتَاع بِهَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ وَيُفْسِد صَوْمهَا، فَالْجَوَاب: أَنَّ صَوْمهَا يَمْنَعهُ مِنْ الِاسْتِمْتَاع فِي الْعَادَة؛ لِأَنَّهُ يَهَاب اِنْتَهَاك الصَّوْم بِالْإِفْسَادِ، وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَزَوْجهَا شَاهِد» أَيْ مُقِيم فِي الْبَلَد، أَمَّا إِذَا كَانَ مُسَافِرًا فَلَهَا الصَّوْم؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ الِاسْتِمْتَاع إِذَا لَمْ تَكُنْ مَعَهُ. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا تَأْذَن فِي بَيْته وَهُوَ شَاهِد إِلَّا بِإِذْنِهِ» فيه إِشَارَة إِلَى أَنَّهُ لَا يُفْتَات عَلَى الزَّوْج وَغَيْره مِنْ مَالِكِي الْبُيُوت وَغَيْرهَا بِالْإِذْنِ فِي أَمْلَاكهمْ إِلَّا بِإِذْنِهِمْ، وَهَذَا مَحْمُول عَلَى مَا لَا يُعْلَم رِضَا الزَّوْج وَنَحْوه بِهِ، فَإِنْ عَلِمَتْ الْمَرْأَة وَنَحْوهَا رِضَاهُ بِهِ جَازَ كَمَا سَبَقَ فِي النَّفَقَة. وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا أَنْفَقَتْ مِنْ كَسْبه مِنْ غَيْر أَمْره فَإِنَّ نِصْف أَجْره لَهُ» فَمَعْنَاهُ: مِنْ غَيْر أَمْره الصَّرِيح فِي ذَلِكَ الْقَدْر الْمُعَيَّن، وَيَكُون مَعَهَا إِذْن عَامٌّ سَابِقٌ مُتَنَاوِلٌ لِهَذَا الْقَدْر وَغَيْره، وَذَلِكَ الْإِذْن الَّذِي قَدْ أَوَّلْنَاهُ سَابِقًا إِمَّا بِالصَّرِيحِ وَإِمَّا بِالْعُرْفِ، ولابد مِنْ هَذَا التَّأْوِيل، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الْأَجْر مُنَاصَفَة، وَفِي رِوَايَة أَبِي دَاوُدَ: «فَلَهَا نِصْف أَجْره»، وَمَعْلُوم أَنَّهَا إِذَا أَنْفَقَتْ مِنْ غَيْر إِذْن صَرِيح وَلَا مَعْرُوف مِنْ الْعُرْف فَلَا أَجْر لَهَا، بَلْ عَلَيْهَا وِزْر، فَتَعَيَّنَ تَأْوِيله. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا كُلّه مَفْرُوض فِي قَدْرٍ يَسِيرٍ يُعْلَم رِضَا الْمَالِك بِهِ فِي الْعَادَة، فَإِنْ زَادَ عَلَى الْمُتَعَارَف لَمْ يَجُزْ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَنْفَقَتْ الْمَرْأَة مِنْ طَعَام بَيْتهَا غَيْر مُفْسِدَة» فَأَشَارَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَنَّهُ قَدْر يُعْلَم رِضَا الزَّوْج بِهِ فِي الْعَادَة، وَنَبَّهَ بِالطَّعَامِ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُسْمَح بِهِ فِي الْعَادَة بِخِلَافِ الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير فِي حَقّ أَكْثَر النَّاس، وَفِي كَثِير مِنْ الْأَحْوَال. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَاد بِنَفَقَةِ الْمَرْأَة وَالْعَبْد وَالْخَازِن النَّفَقَة عَلَى عِيَال صَاحِب الْمَال وَغِلْمَانه وَمَصَالِحه وَقَاصِدِيهِ مِنْ ضَيْف وَابْن سَبِيل وَنَحْوهمَا، وَكَذَلِكَ صَدَقَتهمْ الْمَأْذُون فيها بِالصَّرِيحِ أَوْ الْعُرْف. وَاَللَّه أَعْلَم.
|